ما بعد الخرا !

ما بعد الخرا !

” حل الخرا !
حل البرلمان !
الشعب يريد إسقاط النظام
خبز و ماء و بن علي لا !”
كل هذه الشعارات سببها واحد
و نتيجتها حتما واحدة
و هي بالنسبة لي ترجمات لنفس الطلب التغيير
و ما بعد التغيير كيف سيكون ٫ أو بالأحرى مالتغير ؟
إذا طلب الأب من إبنه أن يدرس الطب فرفض الإبن
فهنا على الإبن أن يقترح إختصاص آخر ليدرسه فلا يكتفي بالرفض
إن لا قرينة بل و شقيقتها فلا قيمة لللا إلا عندما تذكر عندها البللا أريد كذا بل كذا
يجب أن نجد بديلا عن النظام الذي نرفضه
و بديل عن البرلمان الذي نريد حله
أي بديل عن الشيء الذي نرفضه
عندما قامت “الثورة” في تونس رفضت النظام و لم تأتي ببديل
لم تكن كالثورة البولشفية أو الفرنسية
فكلاهما لهما أدبيات و أسباب عميقة جدا
فعندما قامت الثورة الفرنسية مثلا الرفض كان يقابله البديل و الحل
لا للملكية لا للإقطاعية لا لسلطة الكنيسة لا لسلطة النبلاء
بل نعم للحرية نعم للمساوات نعم للإيخاء .
في 2011 قال كابتن خبزة كلمته لا للنظام المتمثل في الشخص على حد إعتقاد التونسي عندها و لم يقل نعم لكذا طالب بالشغل و الكرامة لكن لم يحدد مالنظام الذي يريده مالتوجه الذي يريده
مالبديل الذي يريده
و أفضل دليل من ورث بن علي في قصره
ألم يكن فؤاد المبزع الذي كان بدوره رئيس البرلمان و أحد أهم رجال حزب “بن علي”
مالذي حدث عندها تغير النظام بالنظام ذاته
تغير الرأس و لم يتغير الجسد
بل و لم يمت بعد قطع رأسه
ثم ماذا حدث ؟
جاء رمز آخر من رموز النظام الذي سبق الإنتفاض عليه و تناول خطة رئاسة الحكومة و هو المرحوم الباجي قائد السبسي
ألم يكن ذات يوم رئيس البرلمان التونسي و عن التجمع ؟
بلا كان فالمتغيير الذي حصل ؟
لا تغيير إطلاقا ماحدث هو تغيير لبعض الأسماء
حاولوا إستدراك هذا الخطأ بتغيير الدستور لكن الدستور لوحده لا يمثل نظام و سير و توجه الدولة
قمنى بخلع بن علي و لم نقم بخلعه من أجسادنا
قمنى بغلع المخ و لم نقم بخلع باقي الجهاز العصبي
حتى بعد الإنتخابات في 2011 لم يتغير شيء
نفس الإدارة و نفس الممارسات و نفس الأجهزة و نفس كل شيء تكرر بتغيير الأسماء
إستبدلنى الأخ الأكبر بإخوة كثر كل منهم كبار و هذه هي المصيبة
فلم يعد هناك ديكتاتور بل حزب واحد متوغل و جاثم على البلاد بمفرده
و الدليل سقوط كل القوى التي يمكن أن تنافسه أو تقلل من هيمنته
هي عملية ترجمة بكل بساطة
التجمع يصبح النهضة بعد شهور
بن علي يصبح مجلس الشورى
البوليس السياسي يصبح الجهاز السري
و مفردات أخرى تترجم
كذلك العائلات التي تحتكر الثروة و النفوذ نفسها
اللومي بن يدر المدب بوشماوي و أسماء أخرى كثر
كانوا و مزالوا حيث هم
فأين الثورة من كل هذا ؟
أين التغيير من كل هذا ؟
أما على الصعيد الإجتماعي و الإقتصادي
فلم يتغير شيء
أرقام النمو هي ذاتها تراجعت لفترة ثم عادت كما كانت
و هاهي هذه السنة تتراجع
بسبب الأزمة الصحية و الإدارة الحكيمة “للخرا ”
البطالة و الفقر نفس الشيء
قد تعتقدون أن عدد الفقراء في تزايد بسبب “الثورة”
لا هذه نتيجة حتمية لسياسات تنخر البلاد منذ عقود
– من قبل الإستعمار حتى-
حتى لو لم تقم التحركات في 2011 كنا سنرى هذا النتاج الإقتصادي و الإجتماعي اليوم
و أما نتاج ما حدث في 2011 فسيعيشه أبنائي أو أحفادي
المطالبة بحل البرلمان اليوم كذلك نفس النقطة أطرحها
مابعد هذا البرلمان الفاشل؟
برلمان فاشل آخر حتما
أو ربما أفشل
– و هو حتما أفشل فكل برلمان يأتي منذ سنين أفشل مما سبقه-
و السؤال هنا لما ؟
لأن العقول التي تحكم – التي يغلب عليها الشيب- و تحتكر الكراسي و المسؤوليات هي ذاتها منذ عقود
لا أعني هنا الأشخاص بل أعني العقول
العقليات طرق التفكير و النظر في الواقع و أزماته
و هذه بدورها أزمة أن تجمد العقول أزمة بحد ذاتها
بل و كارثة مثيلة للأوبئة و البراكين و الزلازل و الإنحباس الحراري
إنحباس الفكر في المربع ذاته لعقود أخطر من الإنحباس الحراري
و الأدهى أن الشعب بدوره عقله منحبس في ذات المربعات و الفقاقيع
حتى الفئة التي تدعي النخبوية و الثقافة و الفرنكوفونية و من يلبسون يحتسون القهوة و لا يشربونها
و من يدخنون لأن السيجارة رفيقهم الوحيد
و من يقولون bonjour
بدلا من صباح الخير
كلهم عقول حبيسة أفكار تلقوها و إبتلعوها دون هضم أو مضغ
فبفيت متحجرة في البطون لا تتحرك و لا تتلون و لا تخضع للواقع فتكون بعيدتا عنه
كذلك الشعب الكريم فهو بين محب للدساترة كاره للإخوان
و بين كاره للدساترة محب للإخوان
و كأن الخيارات إنعدمت أو أن البلاد عقيمة عن ولادة تيارات أخرى و خيارات أخرى .
ثنائية الخيار هي إخضاع مبتكر للشعوب و الأفراد
السجناء في غوانتانامو يخيرونهم بين التعذيب حتى الإعتراف أو الإعتراف مباشرة
هتلر خير شعبه الخطر اليهودي و إحتمال فناء الشعب الألماني أو دكتاتوريته
الأب يخير الإبن بين العقاب أو الإلتزام
فيختار الفرد عندها أو الجماعة أخف الضررين
الدكتاتورية أو الإعتراف بما لم يفعل المعتقل أو الإلتزام
كذلك نحن
الإخوان أو للدساترة
الإرهاب و الرجعية أو الدكتاتورية و الرجعية كذلك
بالنسبة البرلمان الحالي لا أرى فيه ما يصدم
نحن فقط علينا أن نرى في بيوتنا و إجتمعاتنا و مقاهينا
علينا أن ننظر في المرآة فنرى نسخا مصغرة من هذا البرلمان
العنف! البذاءة ! التحرش ! الصراخ! الأفكار الصادمة و الرجعية !
الفساد !
كلها مكونات للشخصية التونسية
النائب في البرلمان أو الوزير أو المسؤول
مواطن تونسي في آخر الأمر و أوله
درس في مدارسنا
و تربى في “حومنا”
و أكل “الكسكسي و العصبان”
فهو “عصبانة ” و “خرا”
بدوره
هذا الذي تشتمون لم نستورده من عطارد أو الزهرة
بل هو بكل بساطة واحد منا و شبيهنا
أي مواطن تونسي يتقلد أي منصب سيكون مثل الذي شتمه في السابق
سيكون الشخص الذي كان يكرهه و يشمئز منه ذات يوم
يقول أحمد زكي في فيلم ضد الحكومة
“كلنا فاسدون ”
أما أنا فأقول
” كلنا فاسدون و خرا ”
نحن في دولة الخرا
نعيش في الخرا
و من يحكم خرا
و المحكوم خرا
و إذا إعترفت به

و إذا إعترفت بهذا
تسجن
كلنا خرا و من يدفع ثمن هذا الخرا هم نحن الخرا بدورنا
يقول ماو
” من يقوم بنصف ثورة كمن يحفر قبره بيده ”
هذا ما نقوم به تماما
نصف ثورة بلا بدائل بلا حلول بلا تغيير حقيقي
سنقبع في هذا الخرا طالما لم نغير من أنفسنا و عقولنا
و أفكارنا
طالما لم نعلم أن المشكل الحقيقي هو نحن
نحن الداء و نحن الدواء
نحن تحتاج لثورة ثقافية
نحتاج لإصلاح المدارس و المدرس
نحتاج جهاز هضميا جديد قادر على هضم الأفكار و تطويعها
لما يتماشى و ثقافتنا التي قد تكون من العظايا ذات يوم إذا لم نتغير
في آخر هذا الكلام أعتذر عن إستعمال لفظ خرا
فلا يوجد لفظ أبلغ لوصف الخرا
كالخرا بحد ذاته
و أقول كل هذا الذي ذكرت عن تونس هو مماثل لكل العربكل العرب خرا اليوم فمتى نتحكم بأمعاؤنا الدقيقة ؟

Photo : Fred Dufour